كثر في الآونة الأخيرة لغطة شرذمة ممن لم تعرف عقولهم أحكام الإسلام، ولا استضاءت قلوبهم بنور الإيمان، قوم لا نصيب لهم من العلم إلا زبالة الأذهان وحثالة الأفكار، وعلى سفاهتهم انتصبوا للقول في دين الله بغير علم، وما علموا أن الله عز وجل جعل القول عليه بغير علم أعظم من الشرك، قال الله عز جل ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ )).
وحديثنا هنا عمن يردد قولا من أقوال الشياطين يلبس به على الناس دينهم، وهو أن التصدق بالمال على الفقير المحتاج أفضل من حج بيت الله الحرام، وأن الأفضل للناس التصدق بأموالهم بدل صرفها على الحج، ولا أعلم أحدا من أهل الإسلام، من علمائه من الصحابة وتابعيهم ومن تبعهم إلى يومنا هذا قال بمثل قولهم، بل قائل هذا الكلام إن كان يعي مآل قوله وأنه يسعى لتعطيل ركن من أركان الإسلام فهو كافر كفرا أكبر، وإن كان جاهلا فيكفيه إثما أنه قال على الله بغير علم، والرد على هؤلاء الشرذمة سهل ولكنهم قوم لا يفقهون، فنقول وبالله نستعين.
1- أولا: الحج ركن من أركان الإسلام، وركنيته ثابتة بالكتاب والسنة.
■ أدلة الكتاب : قال الله عز وجل: ((إ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ۚ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)) [الحج: 25-30]. وهذه الآية أصل عظيم لو وعيها السفهاء القائلون بمقاطعة الحج، والتصدق بأموال الحج أفضل من الحج لعلموا أنهم يصدون سبيل الله والمسجد الحرام، وأنهم يريدون في بإلحاد وظلم، وأنهم لا يعظمون شعائر الله.
■ أدلة السنة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بُنِيَ الإسلام على خمس؛ شهادةِ أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاء الزَّكاة، وصومِ رمضان، وحجِّ البيت من استطاع إليه سبيلاً )).
2- ثانيا: الأصل في العبادات التوقيف، فلا تشرع عبادة إلا ما شرعه الله ورسوله، والتفضيل بينها كذلك لا يكون إلا بنص، وسنرى فيما يلي التنصيص على أيها أفضل الحج أو الصدقة.
3- ثالثا: المفاضلة بين العبادات يمكن أن نعرفها بهذا التعريف المختصر، وهي ترجيح عبادة على غيرها من العبادات لمزية فيها. والمفاضلة لها أركان أربعة هي: الفاضل والمفضول وأداة التفضيل والفضيلة أو المزية، وهذه المزية قد تتعدد أو قد تكون واحدة.
4- رابعا: من المزايا التي تتفاضل بها الأعمال أن تكون من الفرائض، فالفرائض أوجب وأفضل من غيرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه ((إنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ )). وعليه فالمفاضلة بين الأعمال والعبادات تقتضي أن يشتركا في أصل أو معنى، والمقارنة بين الحج وبين الصدقة لا تصح، لأنها مقارنة بين ركن من أركان الإسلام وهو فرض على الأعيان لمن توفرت فيه الشروط، وبين صدقة هي نافلة وتطوع.
5- خامسا: ثبت بالنصوص أن الحج من أفضل الأعمال، وهو أفضل عبادة بعد الجهاد، وهو عبادة شريفة بشرف مكانها وزمانها ففيها يوم من أفضل الأيام وهو يوم عرفة ويوم النحر الأكبر وهو الحج الأكبر، وهي عبادة في أشرف بقاع الأرض وهو البيت العتيق المسجد الحرام، والنصوص في فضل الحج كثيرة صحيحة متواترة، منها:
■ عن - أبي هريرة رضي الله عنه - قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضَل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور))؛ متفق عليه.
■ عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أتى هذا البيت، فلم يَرفث ولم يَفسق، رجع كما ولدتْه أمُّه))؛ متفق عليه.
■ عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ)). صحيح مسلم.
والأحاديث كثيرة في هذا الباب، وهي نصوص ثابتة تبين أن الحج أفضل من الصدقة، بل هو أفضل من سائر العبادات إلا الجهاد في سبيل الله، بل قد قرنه النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام والهجرة.
6- سادسا: الحج باعتباره ركنا من أركان الإسلام لا يكون إلا بشروط وأركان نص عليها الشرع بصفتها وبكيفيتها، وليس لأحد أن يضيف إليها ما ليس منها، أو أن ينقص منها ما ثبت أنه منها، والحج فريضة تجب على كلِّ مسلم حُرٍّ مُكلَّف، سليمٍ من الأمراض، قادرٍ على النفقة، ولدَيه ما يكفي أسرتَه ومَن تلزمه نفقتُهم مدَّة الحج، ويُضاف إلى ذلك أن يكون الطريقُ مأمونًا.
وشرط النفقة هنا خاص بمن تجب عليه نفقتهم، أما غيرهم من المسلمين ممن لا تجب عليه نفقتهم وإنما صدقته عليهم هي من باب الإحسان والتطوع وهذا ليس مانعا وليس شرطا من الشروط التي تمنع الحج.
7- سابعا: حج النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه، وحج بعدهم الناس إلى اليوم، ولا يزال في الدنيا فقراء يحتاجون الصدقة، ولو كان التصدق أفضل من الحج لفعله النبي صلى الله عليه وسلم وترك الحج وتصدق ولفعله بعده خلفائه حتى يقضى على الفقر، وهذا خلاف سنن الله الكونية والشرعية، فإن الناس فيهم الغني والفقير قدرا مقدرا لا دافع ولا راد له، لأن الله عز وجل فاضل بين الناس في الأرزاق قال الله تعالى: ((وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ۚ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ۚ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) [ النحل: 71].
8- ثامنا: أن الصدقة عبادة مالية فقط، وهي ليست واجبة على المسلمين، والصدقة هي من سنن الفطرة التي أقرها الشرع، فالتصدق والإحسان قد يفعله المسلم وغيره، لذلك فالأعمال والعبادات التي يتميز بها الإسلام عن غيره من الديانات والتي وردت صفتها بنصوص الوحي بالقرآن والسنة تكون أفضل من غيرها، لذلك فالواجب على المسلمين في أموالهم هو الزكاة، وهي قدر معلوم من المال أو من الأصناف المنصوص عليها شرعا والتي تجب فيها الزكاة، ومن شروطها النصاب والحول في الأموال، فمن أدَّاها فقد أدى حق الله الذي عليه في أمواله، وهو بعد ذلك حر في أن يصرفه كيف شاء في الأبواب المشروعة، وليس لأحد أن يلزمه بالصدقة فوق ذلك بل هي تطوع وإحسان، وقد بينا فيما سبق أن الفرض مقدم على التطوع، فإذا توفر للرجل أو المرأة المال والقدرة تعين عليه الحج، وكان مقدما على غيره من الأعمال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله " وَالْحَجُّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ الَّتِي لَيْسَتْ وَاجِبَةً . وَأَمَّا إنْ كَانَ لَهُ أَقَارِبُ مَحَاوِيجُ فَالصَّدَقَةُ عَلَيْهِمْ أَفْضَلُ , وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هُنَاكَ قَوْمٌ مُضْطَرُّونَ إلَى نَفَقَتِهِ , فَأَمَّا إذَا كَانَ كِلاهُمَا تَطَوُّعًا فَالْحَجُّ أَفْضَلُ لأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَالِيَّةٌ"، والحديث هنا عن حج التطوع، فالحج ولو كان تطوعا أي أن الحاج سبق له أن حج فإن الحج في التطوع مقدم على الصدقة لأنه عبادة مالية بدنية، والصدقة عبادة مالية فقط.
9- تاسعا: من الشبهات التي يرددها أصحاب هذا الكلام أن الحج تذهب أمواله إلى آل سعود، وهذه شبهة بليدة ببلادة قائلها، فالمبلغ المالي المدفوع للحج لا يذهب كله لآل سعود، وإنما هو مقابل السفر والمقام والزاد وغيرها من الأمور التي يتزود بها الحاج لأداء المناسك، وبعضها أموال تصرف لأمور إدارية تفعلها كل دول العالم وليس آل سعود فقط.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قصد الحج (يقصد بالحج العمرة أيضا وهو المراد هنا) هو وأصحابه والمسجد الحرام يومئذ تحت حكم كفار قريش، فلو كان هذا مانعا لامتنع الرسول صلى الله عليه وسلم من الحج لكنه لم يفعل، فحتى لو كان آل سعود كفارا وطلبوا المال مقابل السماح للمسلمين بالحج، لم يجز للمسلمين تعطيل شعيرة من شعائر الله العظيمة لطلب المال فقط، لأن الحج كما سبق عبادة مالية بدنية، وصرف المال فيه ولأجله داخل فيه.
10- عاشرا: أن الحج فيه منافع دينية ودنيوية، فالدينية تحقيق التوحيد وتعظيم الله وعبادته، وكسب الأجر وتكفير الذنوب.
والدنيوية: كالتجارة وجلب الأرزاق إلى ساكني المسجد الحرام، وإطعام الفقراء وغير ذلك. وكل هذه المنافع مطالب شرعية ومزايا لا تتوفر في الصدقة.
وهذا جهد المقل وإلا فإن شأن الحج شأن عظيم لا يوفيه قدره من التعظيم، إلا من خالط الإيمان بشاشة قلبه، ووقر في قلبه تعظيم شعائر الله، لكن شياطين الإنس والجن إن عجزت عن دفع المسلم إلى اقتراف المعاصي والكبائر عملت على صرفه من الأفضل إلى المفضول، وملخص قول هؤلاء الشياطين ومآله تعطيل ركن من أركان الإسلام، وليس همهم فقير ولا معتر، بل همهم صرف الناس عن دينهم، ومن علم حالهم علم أنهم أبعد الناس عن الشفقة على الفقراء والمساكين، فنسأل الله أن يغفر لنا تقصيرنا ويتقبل منا أعمالنا وأن ينصرنا على أعدائنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وحديثنا هنا عمن يردد قولا من أقوال الشياطين يلبس به على الناس دينهم، وهو أن التصدق بالمال على الفقير المحتاج أفضل من حج بيت الله الحرام، وأن الأفضل للناس التصدق بأموالهم بدل صرفها على الحج، ولا أعلم أحدا من أهل الإسلام، من علمائه من الصحابة وتابعيهم ومن تبعهم إلى يومنا هذا قال بمثل قولهم، بل قائل هذا الكلام إن كان يعي مآل قوله وأنه يسعى لتعطيل ركن من أركان الإسلام فهو كافر كفرا أكبر، وإن كان جاهلا فيكفيه إثما أنه قال على الله بغير علم، والرد على هؤلاء الشرذمة سهل ولكنهم قوم لا يفقهون، فنقول وبالله نستعين.
1- أولا: الحج ركن من أركان الإسلام، وركنيته ثابتة بالكتاب والسنة.
■ أدلة الكتاب : قال الله عز وجل: ((إ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ۚ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)) [الحج: 25-30]. وهذه الآية أصل عظيم لو وعيها السفهاء القائلون بمقاطعة الحج، والتصدق بأموال الحج أفضل من الحج لعلموا أنهم يصدون سبيل الله والمسجد الحرام، وأنهم يريدون في بإلحاد وظلم، وأنهم لا يعظمون شعائر الله.
■ أدلة السنة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بُنِيَ الإسلام على خمس؛ شهادةِ أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاء الزَّكاة، وصومِ رمضان، وحجِّ البيت من استطاع إليه سبيلاً )).
2- ثانيا: الأصل في العبادات التوقيف، فلا تشرع عبادة إلا ما شرعه الله ورسوله، والتفضيل بينها كذلك لا يكون إلا بنص، وسنرى فيما يلي التنصيص على أيها أفضل الحج أو الصدقة.
3- ثالثا: المفاضلة بين العبادات يمكن أن نعرفها بهذا التعريف المختصر، وهي ترجيح عبادة على غيرها من العبادات لمزية فيها. والمفاضلة لها أركان أربعة هي: الفاضل والمفضول وأداة التفضيل والفضيلة أو المزية، وهذه المزية قد تتعدد أو قد تكون واحدة.
4- رابعا: من المزايا التي تتفاضل بها الأعمال أن تكون من الفرائض، فالفرائض أوجب وأفضل من غيرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه ((إنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ )). وعليه فالمفاضلة بين الأعمال والعبادات تقتضي أن يشتركا في أصل أو معنى، والمقارنة بين الحج وبين الصدقة لا تصح، لأنها مقارنة بين ركن من أركان الإسلام وهو فرض على الأعيان لمن توفرت فيه الشروط، وبين صدقة هي نافلة وتطوع.
5- خامسا: ثبت بالنصوص أن الحج من أفضل الأعمال، وهو أفضل عبادة بعد الجهاد، وهو عبادة شريفة بشرف مكانها وزمانها ففيها يوم من أفضل الأيام وهو يوم عرفة ويوم النحر الأكبر وهو الحج الأكبر، وهي عبادة في أشرف بقاع الأرض وهو البيت العتيق المسجد الحرام، والنصوص في فضل الحج كثيرة صحيحة متواترة، منها:
■ عن - أبي هريرة رضي الله عنه - قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضَل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور))؛ متفق عليه.
■ عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أتى هذا البيت، فلم يَرفث ولم يَفسق، رجع كما ولدتْه أمُّه))؛ متفق عليه.
■ عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ)). صحيح مسلم.
والأحاديث كثيرة في هذا الباب، وهي نصوص ثابتة تبين أن الحج أفضل من الصدقة، بل هو أفضل من سائر العبادات إلا الجهاد في سبيل الله، بل قد قرنه النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام والهجرة.
6- سادسا: الحج باعتباره ركنا من أركان الإسلام لا يكون إلا بشروط وأركان نص عليها الشرع بصفتها وبكيفيتها، وليس لأحد أن يضيف إليها ما ليس منها، أو أن ينقص منها ما ثبت أنه منها، والحج فريضة تجب على كلِّ مسلم حُرٍّ مُكلَّف، سليمٍ من الأمراض، قادرٍ على النفقة، ولدَيه ما يكفي أسرتَه ومَن تلزمه نفقتُهم مدَّة الحج، ويُضاف إلى ذلك أن يكون الطريقُ مأمونًا.
وشرط النفقة هنا خاص بمن تجب عليه نفقتهم، أما غيرهم من المسلمين ممن لا تجب عليه نفقتهم وإنما صدقته عليهم هي من باب الإحسان والتطوع وهذا ليس مانعا وليس شرطا من الشروط التي تمنع الحج.
7- سابعا: حج النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه، وحج بعدهم الناس إلى اليوم، ولا يزال في الدنيا فقراء يحتاجون الصدقة، ولو كان التصدق أفضل من الحج لفعله النبي صلى الله عليه وسلم وترك الحج وتصدق ولفعله بعده خلفائه حتى يقضى على الفقر، وهذا خلاف سنن الله الكونية والشرعية، فإن الناس فيهم الغني والفقير قدرا مقدرا لا دافع ولا راد له، لأن الله عز وجل فاضل بين الناس في الأرزاق قال الله تعالى: ((وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ۚ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ۚ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) [ النحل: 71].
8- ثامنا: أن الصدقة عبادة مالية فقط، وهي ليست واجبة على المسلمين، والصدقة هي من سنن الفطرة التي أقرها الشرع، فالتصدق والإحسان قد يفعله المسلم وغيره، لذلك فالأعمال والعبادات التي يتميز بها الإسلام عن غيره من الديانات والتي وردت صفتها بنصوص الوحي بالقرآن والسنة تكون أفضل من غيرها، لذلك فالواجب على المسلمين في أموالهم هو الزكاة، وهي قدر معلوم من المال أو من الأصناف المنصوص عليها شرعا والتي تجب فيها الزكاة، ومن شروطها النصاب والحول في الأموال، فمن أدَّاها فقد أدى حق الله الذي عليه في أمواله، وهو بعد ذلك حر في أن يصرفه كيف شاء في الأبواب المشروعة، وليس لأحد أن يلزمه بالصدقة فوق ذلك بل هي تطوع وإحسان، وقد بينا فيما سبق أن الفرض مقدم على التطوع، فإذا توفر للرجل أو المرأة المال والقدرة تعين عليه الحج، وكان مقدما على غيره من الأعمال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله " وَالْحَجُّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ الَّتِي لَيْسَتْ وَاجِبَةً . وَأَمَّا إنْ كَانَ لَهُ أَقَارِبُ مَحَاوِيجُ فَالصَّدَقَةُ عَلَيْهِمْ أَفْضَلُ , وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هُنَاكَ قَوْمٌ مُضْطَرُّونَ إلَى نَفَقَتِهِ , فَأَمَّا إذَا كَانَ كِلاهُمَا تَطَوُّعًا فَالْحَجُّ أَفْضَلُ لأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَالِيَّةٌ"، والحديث هنا عن حج التطوع، فالحج ولو كان تطوعا أي أن الحاج سبق له أن حج فإن الحج في التطوع مقدم على الصدقة لأنه عبادة مالية بدنية، والصدقة عبادة مالية فقط.
9- تاسعا: من الشبهات التي يرددها أصحاب هذا الكلام أن الحج تذهب أمواله إلى آل سعود، وهذه شبهة بليدة ببلادة قائلها، فالمبلغ المالي المدفوع للحج لا يذهب كله لآل سعود، وإنما هو مقابل السفر والمقام والزاد وغيرها من الأمور التي يتزود بها الحاج لأداء المناسك، وبعضها أموال تصرف لأمور إدارية تفعلها كل دول العالم وليس آل سعود فقط.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قصد الحج (يقصد بالحج العمرة أيضا وهو المراد هنا) هو وأصحابه والمسجد الحرام يومئذ تحت حكم كفار قريش، فلو كان هذا مانعا لامتنع الرسول صلى الله عليه وسلم من الحج لكنه لم يفعل، فحتى لو كان آل سعود كفارا وطلبوا المال مقابل السماح للمسلمين بالحج، لم يجز للمسلمين تعطيل شعيرة من شعائر الله العظيمة لطلب المال فقط، لأن الحج كما سبق عبادة مالية بدنية، وصرف المال فيه ولأجله داخل فيه.
10- عاشرا: أن الحج فيه منافع دينية ودنيوية، فالدينية تحقيق التوحيد وتعظيم الله وعبادته، وكسب الأجر وتكفير الذنوب.
والدنيوية: كالتجارة وجلب الأرزاق إلى ساكني المسجد الحرام، وإطعام الفقراء وغير ذلك. وكل هذه المنافع مطالب شرعية ومزايا لا تتوفر في الصدقة.
وهذا جهد المقل وإلا فإن شأن الحج شأن عظيم لا يوفيه قدره من التعظيم، إلا من خالط الإيمان بشاشة قلبه، ووقر في قلبه تعظيم شعائر الله، لكن شياطين الإنس والجن إن عجزت عن دفع المسلم إلى اقتراف المعاصي والكبائر عملت على صرفه من الأفضل إلى المفضول، وملخص قول هؤلاء الشياطين ومآله تعطيل ركن من أركان الإسلام، وليس همهم فقير ولا معتر، بل همهم صرف الناس عن دينهم، ومن علم حالهم علم أنهم أبعد الناس عن الشفقة على الفقراء والمساكين، فنسأل الله أن يغفر لنا تقصيرنا ويتقبل منا أعمالنا وأن ينصرنا على أعدائنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.